ذكّرتني ابنتي بهذه الفقرة الهامة لفؤاد عجمي في كتابه بعنوان "المأزق العربي":
"في كل من التحليلات الليبرالية والراديكالية ، يُدانُ الدين باعتباره 'اليد الميتة' للماضي. وبما أن كلا النظامين الفكريين يدعيان أنهما يسعيان إلى تحرير البشرية وتسخير طاقتها لإعادة بناء النظام الاجتماعي، فإن التمسك بالمشاعر الدينية يُنظر إليه، فيهما، على أنه قوة رجعية.
إن الحداثة العربية تضع الدين في صورة سلبية؛ إذ يُصبح الدين {في نظرها] عقبة أمام التغيير الاجتماعي. والانحياز الكامن في الإيديولوجيات العلمانية هو أن على الناس أن يتخلوا عن إيمانهم الديني إذا أرادوا أن يحرزوا تقدماً.
وهذا ليس حُكماً تحليلياً يَصدر عن منظّري العلمانية العرب، وإنما، وللمفارقة، يُصبح لديهم 'عقيدةً إيمانية' يُتمسَّكون بها، بنفس الحِدّة التي يتمسك بها المتدينون بمعتقداتهم".
هذا كلامٌ نشره فؤاد عجمي قبل 44 عاماً! ومع ذلك، فإنه يكشف – وكأنه كُتب بالأمس – عن مشكلةٍ عميقة ما زال كثيرٌ من الحداثيين والليبراليين العرب يعانون منها حتى اليوم، وخاصة في الحالة السورية: الانتقائية المعرفية. فهؤلاء، على الرغم من تبنيهم العلني للحداثة وخطاب التنوير، إلا أنهم لا يقرؤون الحداثة إلا من سطحها، ومن خلال عناوينها الصاخبة لا من داخل تحليلاتها النقدية.
الأدهى من ذلك، أنهم كثيراً ما يتعاملون مع الفكر الغربي – الذي وُلدت الحداثة في سياقه – بانتقائية صارخة، يختارون منه ما يخدم موقفهم الآني أو حاجتهم الجدالية، متجاهلين حجم النقد الذي وُجّه من داخل الغرب نفسه إلى الحداثة، سواء من مفكرين ما بعد حداثيين، أو من مدارس نقدية فلسفية وأنتروبولوجية وسوسيولوجية شرّحت بنية العقل التنويري وأسئلته ومآلاته الأخلاقية والسياسية.
وإذا قرؤوا ذلك النقد، فإنهم غالباً ما يقرؤونه متأخرين.. جداً.. وبعد أن يكون قد عبرَ أطواره الأساسية وأنتج تحولات فكرية كبرى في أوروبا وأمريكا. وهكذا تجدهم، بينما يرفعون رايات "الحداثة"، يعيشون في واقعٍ فكري عاشه الزمن الغربي منذ عقود طويلة.. غير مدركين أن الخطاب الذي يستندون إليه قد تجاوزهُ أهله، أو أعادوا تأويله، أو حتى انقلبوا عليه. بينما يحاولون هم أن يجرّوا الواقع السوري للحياة فيه في هذا العصر!..
إن فقرة عجمي لا تكتفي بكشف هذه المفارقة، بل تفضحها: إذ يَظهر كيف أن بعض من ينتقدون الدين والتديّن، لا يفعلون ذلك بمنطق علمي تحليلي، وإنما يستبدلون الإيمان الديني بإيديولوجيا علمانية ذات طابع عقدي مغلق، تُمارَس طقوسُها بنفس حدّة التمسك بالإيمان، مع فارق أنهم يظنون أنفسهم "تحرّروا". وهذه، بذاتها، واحدة من أكثر المفارقات الفكرية ألماً في مأزقنا السوري الحديث.
• الدكتور وائل ميرزا كاتب وسياسي سوري، واستشاري في مجال الإعلام والتخطيط الاستراتيجي

تعليقات
إرسال تعليق