نما الاقتصاد الصيني بسرعة خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وأصبحت الصين قوة لايستهان بها. ولكن هذا لايعني أن النمو سيستمر ولاحدود له، فاحتمال استمرار الصين بهذا النمو سيتلاشى تدريجياً. فالنمو الأكثر بطئاً يعني بالنسبة للصين نشوء مشكلات اجتماعية وسياسية كبيرة. واستقرار الصين السياسي يعتمد بشدة على نمو اقتصادها السريع والمستمر، وهو أمر مشكوك فيه، فالاقتصاد الصيني ليس قوياً في حقيقة الأمر كما يبدو عليه الحال، لجملة من الأسباب، ولكنها تبدو المتحدي العالمي الأكثر احتمالاً على المدى القصير.
جغرافياً. تعيش الغالبية العظمى من السكان على الشريط الساحلي الشرقي الذي يشكل ألف ميل، أما الثلثان الآخران من البلاد فالكثافة السكانية فيهما قليلة جداً.
استمرت الفوضى لعقود حتى استيلاء الشيوعيين على الحكم عام ١٩٤٩. حاول ماو استنهاض ثورة في المدن الساحلية مثل شنغهاي. ولكنه فشل بذلك، لذا قام بتلك المسيرة الطويلة الشهيرة باتجاه الداخل حيث شكل جيشاً من المزارعين الفقراء الذين خاضوا حرباً أهلية استعادوا بنتيجتها الساحل الغني، ولكن ماو أعاد الصين إلى عزلتها الدولية بعد أن بسط سيطرته على البلاد، وبقيت معزولة عن العالم الخارجي وتعاني الفقر حتى وفاته عام ١٩٧٦.
في عام ١٨٤٢ تخلت الصين عن هونغ كونغ لبريطانيا، وفي عام ١٨٧٥ بدأ الأوربيون ببسط سيطرتهم على الولايات الصينية الشرقية (الساحلية خاصة)، التي ازدهرت فيها التجارة كثيراً لدرجة أن سكان الساحل طالبوا ببقاء الاحتلال الغربي، حتى بسط الشيوعيين سيطرتهم عام ١٩٤٩حتى ١٩٧٦.
بعد وفاة "ماو" بدأ عصر التوسع الاقتصادي والتجاري بمقامرة من خليفته "دينغ زياو بينغ" لإعادة الصين الى أيام التجارة العالمية المزدهرة، لذلك فتح أبواب الصين للعالم وانخرط في التجارة العالمية. ازدهرت ثانيةَ المناطق الساحلية، ونسجت شبكة قوية من العلاقات التجارية مع الخارج، وأدت المنتجات الرخيصة الثمن إلى خلق مناخ لتشكيل ثروات كبيرة في مدن الساحل الكبرى مثل شنغهاي، لكن الداخل الصيني بقي فقيراً ومتأخراً، لذلك ازداد التوتر بين الساحل والداخل وبسطت بيجين سيطرتها بالقوة والقمع على كل المناطق، واستمرت على هذا المنوال لمدة ثلاثين عاماً. تراهن الصين على أن بإمكانها إحداث توازن بين الداخل والساحل الى مالانهاية بتحويل مصادر الثروة من الساحل إلى الداخل دون أن تضطر إلى مواجهة مقاومة لهذه الحركة من الساحل، ودون حدوث قلاقل في المناطق الداخلية، لذلك تسعى بيجين إلى توفير مقومات الحياة الكريمة والرفاهية لمختلف المناطق.
المشكلة الخطيرة هو محاولة الصين أن تظهر بمظهر الدولة الرأسمالية التي تبيح الملكية الخاصة والبنية المصرفية الحديثة وكافة مظاهر الرأسمالية الأخرى، ولكن فعلياً الصين ليست رأسمالية بمعنى أن الأسواق لاتقرر كيفية توزيع رأس المال. لقد تم منح قروض كبيرة(حوالي ٦٠٠-٩٠٠) مليار دولار لأسباب تراوحت بين دوافع فرضتها الأنظمة العائلية الآسيوية والروابط الاجتماعية، وبين العلاقات السياسية والمتنفذين في السلطة في النظام الشيوعي الحاكم(كحال الاتحاد الروسي ومافياته).
هذه القروض لم يكن لها علاقة بالتجارة والتنمية بالمفهوم الرأسمالي، لذلك ضاعت هذه القروض ولم تحقق قفزة تجارية مقنعة وأصبحت قروضاً متعثرة يصعب استعادتها. تم احتواء مشكلة هذه الديون عن طريق معدلات نمو مرتفعة للغاية ناجمة عن عمليات تصدير قليلة التكلفة والعالم متعطش للحصول على مواد مستوردة رخيصة الثمن، أنقذ هذا المردود المالي الأعمال التجارية التي تعاني من ديون مرتفعة من الإفلاس.
ولكن كلما خفضت الصين من ثمن منتجاتها قل هامش الربح ولم يؤدي الى نتيجة تذكر كمحرك للاقتصاد المتعثر، مثلما تعثر الاقتصاد الياباني في التسعينات ودخل في مرحلة ركود وانهار النظام المصرفي، والصين هي اليابان تماماً تعيش على (الكورتيزون)، أي المال، ولكنها دولة شيوعية تستثمر المال سياسياً وتعطي الأولوية للموالين للسلطة والعلاقات الاجتماعية الآسيوية على حساب الانضباط الاقتصادي، لذلك نرى أنها تتحكم كما تشاء بالبيانات الاقتصادية وحتى بالاحصائيات الصحية والأمراض والجائحات وانتشارها (جائحة كوفيد ١٩ مثال حي على تكتمها وإحصائياتها المعلنة المزيفة للواقع)، فهي تتحكم بالبيانات وتتلاعب بها. كما أن الصين واليابان تعتمدان على التصدير وتتمتعان بمعدلات نمو هائلة، وسيواجهان الانهيار بمجرد أن يبدأ معدل النمو بالتباطؤ بسبب أن معدلات الديون فيها عالية جداً (اليابان ٢٠٪ والصين ٢٥٪ وحتى ٤٠٪ من إجمالي الناتج المحلي).
يبدو الاقتصاد الصيني معافى ونشيط وحيوي ويتمتع بسرعة نمو كبيرة، ولكن هل هذا النمو مربحاً؟. النمو يستولد المال الضروري لإبقاء المصارف تعمل بشكل مرتاح، لكنه حقيقة لايشكل مصدر قوة للاقتصاد، لأنه لو حدث ركود اقتصادي في أمريكا وأوروبا وهما أكبر المستوردين من الصين، سيبدأ هذا النمو بالانحسار وتتهاوى بنية الاقتصاد بسرعة كبيرة، ولنا في التجربة اليابانية عبرة كبيرة حيّة، حيث في الوقت الذي كان ينمو فيه الاقتصاد الياباني بسرعة مذهلة، ولكن معدلات نموه لم تكن ثابتة أو حتى متوازنة. وعندما تراجع هذا النمو، واجهت اليابان أزمة اقتصادية ومصرفية كبرى لم تتعافى منها حتى بعد أكثر من عشرين عاماً على حدوثها. كما تهاوى اقتصاد شرق آسيا عام ١٩٩٧، لأن اقتصادات دول تلك المنطقة كانت تنمو بسرعة كبيرة.
تمددت الصين بسرعة كبيرة خلال الأعوام الثلاثين الماضية، فهل يمكن ضبط إيقاع معدلات النمو هذه إلى أجل غير مسمى؟ أو بصورة دائمة؟. هذا يتعارض بشدة مع المبادئ الأساسية للاقتصاد. فدورة الاقتصاد لابد أن تصيب في مرحلة من المراحل الاقتصاد بمقتل وهذا أمر لامفر منه، فقد يتسبب تسرب اليد العاملة الماهرة إلى دول أخرى، مما يؤدي إلى نقص في اليد العاملة في مرحلة ما، أو بركود اقتصادي يصيب الدول المستوردة مما يؤدي إلى توقف النمو المطرد، وعليه. لابد من لفت الإنتباه إلى أن هناك حدوداً بنيوية للنمو، والصين تقترب من هذه الحدود.
مشكلة الصين سياسية بالدرجة الأولى، وممايجعلها متماسكة هو المال وليس الايديولوجيا، وعندما تتوقف عجلة ضخ الأموال عن الدوران سيؤدي هذا إلى انكماش النظام المصرفي، وإلى اهتزاز نسيج المجتمع الصيني برمته، لأن الولاء في الصين إما يتم شراؤه أو فرضه عُنْوَةً، فالتباطؤ بالاعمال التجارية عموماً يؤدي إلى عدم استقرار سياسي، والصين المنقسمة كما ذكرنا إلى منطقة ساحلية غنية جاذبة للاستثمارات الأوروبية والأمريكية، وتحاول التحرر من الحكومة المركزية، والاخرى داخلية فقيرة ومتخلفة تطالب دوماً بإصلاحات وتطوير الخدمات والدعم الحكومي. سيؤدي ضغط الداخل إما إلى الهجرة إلى الساحل، أو إلى محاولة الضغط على الحكومة لفرض ضرائب عالية على سكان الساحل الأثرياء، من أجل توزيع أموال تلك الضرائب عليهم لتطويرهم وتطوير مناطقهم وخدماتهم. وستتجه الحكومة إما إلى تخفيف سيطرتها أو ربما تفقد سيطرتها على الداخل أو محاولة قمعها بشدة، وبهذا ستتجه إلى الخيار الماوي الذي يعني العزلة الدولية مرةً أخرى.
يرتكز النظام الصيني على ثلاثة ركائز أساسية. الأول يمثل البيروقراطية الواسعة التي تدير شؤون الصين. أما الثاني فيمثل المجمع الأمني العسكري الذي يفرض إرادة الحزب الشيوعي والدولة. والثالث يَتَمَثل في المبادئ الايديولوجية للحزب الشيوعي التي اختفت الآن. المساواة وخدمة الناس أصبحت قيماً بالية، صح أن الكل يطالب بها، ولكن لا أحد من الشعب الصيني يؤمن بها أو يمارسها الآن.
تلاشي الايديولوجية أثر على الدولة والحزب وأجهزة الأمن كثيراً، واستفاد مسؤولو الحزب الشيوعي من النظام الجديد، ولو حاول النظام فرض سيطرة الدولة على المناطق الساحلية لن يستطيع لأنه لايريد أن يكون عدائياً معها، لأن هذا الجهاز هو جزء من النظام الذي جعل هذه المناطق أكثر ثراء، لذلك المسؤولون الحكوميون على امتداد الساحل لايطبقون المراسيم الصادرة عن الحكومة المركزية، لأنهم داعمين أساسيين للتعامل التجاري مع الأجانب، لذلك يجب إيجاد إيديولوجيا بديلة عن الشيوعية يضحي الشعب من أجلها، لأنه غير مستعد أن يضحي من أجل الشيوعية، فبالامكان أن يؤمن بالصين وانتماؤه بزيادة دعم الشعور القومي والند الطبيعي الملازم للقومية، والخوف من الأجانب الذين اتهمهم ماو في إضعاف الصين وإفقارها، لذلك سيقوم الحزب الشيوعي كالعادة بالقاء اللوم على الأجانب مرة أخرى لتسببهم في مشكلة الصين الاقتصادية.
مواجهة الصين ستكون مع العدوين التقليديين اليابان وأمريكا، ومن الصعب أن تخوض نزاع مسلح مع أي من هاتين الدولتين، بسبب أن الصين لاتمتلك قوة بحرية قوية، فبحريتها لازالت محدودة القوة رغم تطويرها، فهي غير قادرة للآن بميزان القوى مواجهة البحرية الأمريكية التي تحمي حتى اليابان وكوريا الجنوبية. لذلك غزو اليابان قد يكون فكرة مغرية لها ولكنها غير قابلة للتطبيق. فبناء قوة بحرية تواجه الأمريكية، بحاجة لتطوير كبير وإمكانيات هائلة قد تستغرق عقود.
أمام الصين ثلاثة طرق مستقبلية محتملة. الأول. الاستمرار بالنمو بمعدلات فلكية إلى أجل غير مسمى، وهذا لم يحدث قبلاً في أي بلد في العالم، ولن تكون الصين استثناءً لهذه الحقيقة. فالنمو الهائل الذي حصل في الثلاثين أو الأربعين سنة الماضية سبب اختلالاً كبيراً في التوازن، وبرزت نقاط ضعف عديدة في الاقتصاد الصيني لابد من العمل على إصلاحها، وعلى الصين أن تقوم بإعادة تموضع صحيحة سبق لدول آسيا بما فيها اليابان أن قامت به.
الطريق المحتمل الثاني. هو العودة إلى مبدأ المركزية، وهذا سيؤدي إلى تضارب المصالح بين الأغنياء والفقراء مما يؤدي إلى تباطؤ في الاقتصاد والذي لايمكن ضبطه إلا بحكومة مركزية قوية تفرض النظام بالقوة، وهو السيناريو الأكثر احتمالاً وقرباً من الواقع الحالي، ولكن حقيقةً جهاز الحكومة المركزي يعج بموظفين تتعارض مصالحهم الخاصة مع مبدأ المركزية سوف يزيد من صعوبة تنفيذ مثل تلك العملية، والحكومة لن تستطيع الاعتماد على الشعب لفرض هذه القواعد وتنفيذها
لذلك يبقى تأجيج النفس القومي الأداة الوحيدة بيد الحكومة من أجل الابقاء على الوضع تحت السيطرة بشكل كامل.
الاحتمال الثالث. في ظل الضغوط التي ممكن أن تحدث بسبب التراجع الاقتصادي مستقبلاً، فإن الصين عرضة للتقسيم على امتداد الخطوط المناطقية التقليدية، في الوقت الذي تكون فيه الحكومة المركزية أكثر ضعفاً وأقل قوة(وهو السيناريو التي تعمل أمريكا عليه).وقد يكون احتمالاً أكثر واقعية، وهو احتمال سوف يفيد الطبقات الأكثر ثراء والمستثمرين الأجانب وسيعيد الصين إلى مرحلة ماقبل الماوية، ولكن هذا هو منطق التاريخ، كما حصل ويحصل لأي دولة في العالم، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا. بكل الأحوال. التحولات التكنولوجية المتسارعة، والقفزات الكبيرة في الذكاء الاصطناعي، وإدخالها في الصناعات الحربية الحديثة، وفي أغلب نواحي الحياة، ستؤدي حتماً إلى تحولات جيوسياسية قادمة لامحالة.
شاركوا المادة عبر حساباتكم بنقرة واحدة من هنا 👇
تعليقات
إرسال تعليق